د.عبدالرحمن مدير إدارة شواطئ المعرفة * ومشرف الشواطئ الثقافية
عدد الرسائل : 187 العمر : 28 الموقع : بلاد الحرمين -أعزها الله- العمل : طالب علم بمدرسة هوازن الثانوية (نظام المقررات) أفضل المدارس المزاج : أنا مبسوط وأحوالي مسرة الشكر : 0 نقاط : 19329 تاريخ التسجيل : 09/03/2008
| موضوع: من خطب الشيخ فواز بن خلف الثبيتي (إمام وخطيب جامع الأمير أحمد بن عبدالعزيز بالطائف) السبت 27 فبراير 2010, 9:04 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
من خطب الشيخ فواز بن خلف الثبيتي , إمام وخطيب جامع الأمير أحمد بن عبدالعزيز آل سعود والشيخ فواز خطيب قديمجدا , وخهو خطيب مفوه ومؤثر , ومعروف عنه ذلك .. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الحمد لله نحمده وستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى اله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فاتقوا الله يا أولى الألباب، واتقوا الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
أيها الأخوة في الله ...
لقد أنزل الله القرآن العظيم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ ليبني أمة ويقيم نظاما، وينشئ حضارة.
تتربى الأجيال على مائدة القرآن؛ لتكون أهلا لحمل أمانة هذا الدين، والدعوة إليه، وقيادة البشرية إلى صراط الله.
والقرآن الكريم في منهجه التربوي – كما يخاطب العقل، ويسلك مسالك الإقناع – يخاطب الفطرة، ويحرك الشعور، ويستثير الوجدان.
يطوف بالقلب أقطار السموات والأرض، ويدعو إلى التأمل في النفس والتفكير في جوانب الحياة، يوجه النظر إلى التاريخ وعبر الغابرين، يقص القصص، ويحدث الأخبار، فكان في منهجه أعجب أسلوبا، وإبداع طريقة، وأصدق إنباء، وأحسن قصصا، وأجمع عبرا.
حوى من الحكم أعجبها، ومن وسائل التربية أنجعها، ومن القصص والأحاديث أصدقها وأعذبها.
في قصص القرآن عبر وعظات، يتجلى فيها عظم البلاء وحسن العاقبة، ويتبين من خلالها سنة الله وحده، وإفراده بالعبادة، وبيان لمصير الصراعات في الدنيا والعواقب في الأخرى، وفى ثناياها يستبين طرق أهل الجنة وطريق أصحاب السعير.
ولقد أدرك مشركوا مكة ما لبيان القرآن من عظيم الأثر، وما لقصصه من بليغ التأثير ؛ فسعو إلى رد ذلك ومقاومته بقصص يأتون بها من أخبار فارس والروم وما حولها من القرى ؛ فالنظر بن الحارث من أعظم المناوئين للدعوة المحمدية، تعلم في بلاد الحيرة أحاديث ملوك فارس وأخبار أقوامها؛ فإذا جلس رسول الله e مجلساً يذكر فيه بالله، ويقص عليهم القصص ويحذرهم ما أصاب الأمم قبلهم، خلفه النظر بن الحارث في مجلسه؛ فقص من أساطير الأولين قصصا وافترى على الله كذبا. ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا من محمد؛ فهلم إلي؛ فأنا أحدثكم، وهو الذي قال: ]سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ[ الإنعام :93 وقال : ]لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ[ الأنفال 31 .
أيها الإخوة..
إن شأن القصص في القرآن عظيم: { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } هود 120، {َحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} يوسف 3. وتميز القرآن المكي خصوصاً بكثرة القصص وأحوال الأمم والأنبياء السابقين؛ لما في ذلك من ت*ة للنبي صلى الله عليه وسلم والتثبيت له هو وأصحابه الذين آمنوا معه.
وهذه وقفة مع قصة من قصص كتاب ربنا؛ قصة حوت التوحيد والأحكام والسير والسياسة وتدبير المعاش وعلاقات الناس، ضمت دروساً وعبراً يصلح بها الدين والدنيا.
اشتملت على صنوف المحن والابتلاءات؛ ابتلاءات الضراء، وابتلاءات السراء.
تلكم هي قصة كريم بن كريم بن كريم، يوسف بن يعقوب عليه وعلى آبائه من الله الصلاة والت*م.
إن فيها آيات للسائلين.. فيها أنواع من الدلائل على قدرة الله وأقداره، وحكمته وأحكامه، ولطفه وتدبيره، وحسن توفيقه لمن اصطفى من عباده.
في هذه القصة لا دافع لقضاء الله ولا مانع من قدرته؛ إذا قضى على الإنسان بسعادة أو مكروه، ثم اجتمع العالم كله ليمنعوا ما قدر فلن يجدوا إلى ذلك سبيلا.
إن فيها آيات للسائلين.. جرت فيها لنبي الله يوسف صنوفاً من المحن والبلايا.
فمحنة الجُب والخوف وكيد الإخوة، إلى محنة وبلاء الاسترقاق والاستعباد، والبعد عن الأهل والأبوين.
إلى فتنة السراء والرخاء في بيوت الكبراء و الوزراء، إلى محنة كيد امرأة العزيز و إغراءات الشهوة والفحشاء..
ثم منهما ينتقل يوسف إلى محنة الضراء إلى السجن، ثم إلى الابتلاء بالسلطان والجاه والحكم في أمور الناس، وتدبير معاشهم وأقواتهم ( في كل هذا آياتٌ للسائلين)
- فقصة يوسف عليه السلام من أحسن القصص، وكل قصص القرآن حسن؛ فهي تقدم البشرى والأمل للمكروبين وأصحاب الابتلاءات والمحن، وتبشرهم أن الفرج آت وأن الأمل قادم، وأن المحنة مهما طالت فستزول . ولكن المهم هو:
إحسان الأيمان وصدق التوكل على الله، والأخذ والعمل بالأسباب، يقول بن القيم رحمه الله: وفى القصة من الفوائد والعبر والحكم أكثر من ألف فائدة وعبرة؛ فتبارك من فصلها ووضحها و بينها..
ولا يسمع سورة يوسف محزون إلا واستراح بها، وبالفعل فقد نزلت هذه السورة الكريمة بمكة، وأغلب القرآن المكي يتميز بالقصص، و الحديث عن التوحيد والأقدار، و الابتلاءات والدعوات؛ لتثبيت الرسول والمؤمنين معه، وهذه السورة جاءت في أحسن الظروف و الفترات من حيات المصطفى.
ونزلت في العام الذي توفي فيه عمه أبو طالب، والذي توفي فيه زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها؛ والذي من شدته على رسول الله e سمي (عام الحزن)، وليس شهر الحزن أو أسبوع! فجاءت ونزلت هذه السورة وهذه القصة الكريمة ليكون فيها تسلية للنبي و للمؤمنين ، وتخفيف لما يعانون من غربة وأذى واضطهاد، وكأنها تقول للرسول إن ما أصابك بالمحن سيجعل لك بعده الفرج والعافية كما حصل لأخيك يوسف عليه السلام، وهى اليوم ت*ة للمؤمنين المضطهدين في أنحاء المعمورة.
يقول الله تعالى { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }.
هكذا يرى يوسف وهو غلام صغير رؤيا في المنام، يرى رؤية ليست كرؤى الصبيان و الغلمان، وإنما يرى الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة له !!
ورؤيا الأنبياء حق، والرؤيا الصحيحة الهامات من الله، يلهمها لروح عبدا من عباده فى المنام، أو هي أمثال مضروبة يضربها الملك لهذا الإنسان ليفهم بها ما يناسبها. وقد قال النبي (الرؤيا ثلاثة :فبشرى من الله، وحديث النفس، وتخويف من الشيطان ).
- فالرؤيا التي يراها الناس فى منامهم لا تخلو عن هذه الأنواع الثلاثة التي قسمها النبي :
الأولى: أضغاث الأحلام، وهى انعكاسات من العقل بما يفكر به الإنسان حال يقظته فيراه في منامه، وأضغاث الأحلام لا تأويل لها .
الثاني: الرؤيا السوء الكاذبة.
وهى تحزين من الشيطان، لتحزن العبد بها كالرؤى المفزعة، أو الغير مفهومه، وعلاجها بعدة أمور ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم:-
- البصاق، أو النفث ثلاثاً عن اليسار.
- التعوذ بالله من الشيطان ثلاثا، والتعوذ بالله من شر هذه الرؤى.
- التحول عن الجنب الذي كان عليه إلى الجانب الآخر.
- أن يسأل الله من خيرها، ويعوذ به من شرها.
- صلاة ركعتين.
- ألا يقصها على أحدٍ من الناس.
- ألا يفسرها؛ لنهى النبي عن تفسير الرؤيا السيئة.
النوع الثالث: الرؤيا الصالحة والحسنه والصادقة
وهى بشرى من الله لعبده الصالح، أو إنذاره، وينبغي لمن رأى رؤيا صالحة عدة أمور.
- أن يحمد الله عليها .
- ان يحدث بها من أحب فقط، أو ناصحا، أو عالما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
- الاستبشار بها.
- تفسيرها على أحسن الوجوه.
أيها الأحبة في الله..
هذه الرؤى الصادقة هي التي قال عنها النبي :"ذهبت النبوءة، وبقية المبشرات "، قيل وما المبشرات ؟ قال:" الرؤيا الصالحة، يراها الرجل أو ترى له". ولكن مع ثبوت الرؤيا ومعرفة أنواعها إلا أن الناس اليوم تكالبت همهم بسب الخواء الروحي، وقل التعلق بالله والرضا بالقضاء والقدر؛ فتعلقت قلوبهم بالرؤى والمنامات تعلقاً خالفوا فيه من تقدمهم من السلف الصالح! ثم توسعوا فيه وفى الحديث عنها، بل والاعتماد عليها والتصديق الجازم بها، حتى أصبحت شغلهم الشاغل؛ فعنها يسألون، وبها يهتمون ويتصلون ويبحثون، حتى طغت على الفتاوى الشرعية؛ فأصبح السؤال عن الرؤى أكثر بأضعاف مضاعفة عن السؤال فى أمور الدين وما يجب على العبد ومالا يجب!!
مع أن أغلبها من الشيطان ليس رؤى صالحة ولا صادقة، أو إنها أضغاث أحلام وتلاعب ؛ لذلك تجد بعض الناس يتأثر بالرؤيا التي رآها، وتضطرب لها نفسه وترتعد لها فرائصه حتى يجد من يعبرها له؛ فينظر لها أشر هي أم خير! ولو أنه التزم الهدي النبوي مع الرؤى لما وقع فيما وقع فيه من انشغال واهتمام وتغير.
وما زاد الأمر سوءاً؛ كثرة وجود المعبرين الذين تصدروا لهذا العلم؛ فعليهم أيضا مسئولية عظمى تجاه الرأيين؛ فبعضهم لا علم له بهذا العلم العظيم؛ فنصب نفسه للفتيا في الرؤى، لاسيما عبر الجرائد والصحف والمجلات والقنوات واللقاءات العامة، وتعتبر الرؤى قرين الفتيا، وقد قال الملك ]يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ[، ثم عليهم أن يتقوا الله عز وجل فى ستر الناس وستر عوراتهم؛ فهم يطلعون على أسرار وخصوصيات للرائي، وقد يكون عورات لا يعلمها إلا هم..
والشاهد إن يوسف عليه السلام رأى هذه الرؤيا وقصها على أبيه نبي الله يعقوب؛ فأدرك يعقوب أن رأي هذه الرؤيا – يوسف – سيكون له شأن عظيم ، واستبشر بها؛ ولهذا نصحه ألا يقص رؤياه على إخوته؛ خشية أن يشعروا بما وراءها لأخيهم الصغير وغير الشقيق؛ فتمتلئ قلوبهم حقدا على يوسف، ويوسوس لهم الشيطان فيدبروا له أمرا يسوؤه: { قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } وهذا من صدق التوكل على الله.
يقول ابن القيم رحمه الله (المفتى والمعبر والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على مالا يطلع عيه غيرهم؛ فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره).
ثم إن على العابرين أن لا يتسرعوا في التعبير، وأن لا يجزموا بما يعبرون، وأن يعلموا خطورة هذا الجانب وما يوصل إليه من الافتتان والإعجاب بالنفس، وتعظيم شأنه فوق شأن المفتين وأهل العلم.
وقد نقل بن عبد البر عن الإمام مالك أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل احد ؟! فقال مالك: النبوءة يلعب؟!(1) وقد نقل بن عبد البر أيضا عن هشام بن حسان أنه قال : كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا فلا يجب فيها شيء! إلا أنه قال : " اتق الله وأحسن في اليقظة؛ فإنه لا يضرك ما رأيت في المنام" وكان يجيب في خلال ذلك ويقول :" إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب".
فإذا كان هذا هو قول إمام المعبرين في زمانه وما بعده من ألازمان، فما الظن بمن جاء بعده. إننا لنسمع بالمعبر يسأل عن ألف رؤيا لا تسمع مرة يقول لا أدري، أو يقول هذه أضغاث أحلام، أو يقول هذه حديث نفس!! إلا من رحم ربك.
بل بعضهم يجيب إجابات منها: أنت في مشاكل أسرية وستحل قريبا!! سيحدث لك أمر خير خلال الإجازة القادمة! إن هذه رؤيا سترزق خلال شهر أو وظيفة أو تكون حاملا قريبا.. وبعضهم يسأل الرائي عن أحواله وخصوصياته.. طالب؟ موظف؟ متزوجة؟
وخاصة النساء.. حامل؟ لديك مشاكل مع زوجك؟ عدد الأبناء؟ معجبة بجمالك!!
يسأل عن أشياء لا علاقة لها بالرؤيا.. فضلاً عن ما يسببه أمثال هؤلاء بجهلهم من مفاسد كبيرة؛ حيث يذكر للشاب أو الفتاة إن أحدهم سيفشل في زواجه، أو أنه سيتزوج عليها زوجها امرأة أخرى، أو أنه سيصاب أو تصاب فيمن تحب؛ فكيف يكون حال هذه أو تلك؛ فأحدهم يترقب الفشل في حياته مع ضيق نفسه وسؤ حاله، والأخرى أفسدت بيتها بالشك في زوجها مرة تلو الأخرى، وهكذا تصدر من ليس أهلا لتعبير الرؤى والأحلام التي هي في غالبها من الشيطان، أو أضغاث أحلام لا تأويل لها.
حتى كأن الناس لا يحلمون ولا يرون رؤى في مناماتهم إلا هذه السنين المتأخرة؛ من كثرة السؤال عن الرؤى والاعتماد عليها والاهتمام والانشغال الكبير بها.
ثم إن على العابرين إن يدركوا خطورة تعبير الرؤى من خلال الشاشات والمجلات والجرائد التي يراها الملايين من الناس، وكذا المجامع الممتلئة بالحشود؛ وذلك للأمور التالية:
أولها: إن الانفتاح المطلق بالتعبير نوع فتنة من أجل حديثه في أمور الغيب، لاسيما إن أحدا لا يستطيع أن يجزم بصحة ما يقول العابر من عدمه، إلا من رأى ذلك في الواقع، وهذا شبه متعسر عبر الشاشات.
وثانيها: تعذر معرفة حال الرائي عبر الشاشات والمجامع من حيث الاستقامة من عدمها، وهذا له صلة وثيقة بتعبير الرؤيا؛ فابن سيرين سأله رجلان كلا منهما رأى أن يؤذن فعبرها للصالح منهما بالحج؛ لقوله تعالى ]وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ[ (الحج:27) ، وعبرها للآخرين بأنه يسرق؛ لقوله تعالى ]ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ[ (يوسف:70).
وثالثها: عدم إدراك عقول الناس لطريقة بعض العابرين للرؤيا، لاسيما عبر الشاشات والمجامع، بحيث يكون تعبيرهم بصورة تجعل المستمع الجاهل لأول وهلة يقول هذا تكهن اوتخمين أو عرافة، ونحن قد أُمرنا بمخاطبة الناس على قدر عقولهم؛ فقد اخرج البخاري في صحيحة قول علي رضي الله عنة: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! ) (2)، وعند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه:ما أنت محدث قوم حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) (3).
رابعها: إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فالمفسدة من خلال التعبير عبر الشاشات أشد من مصلحته لأمور لا تخفى على متتبعها، لاسيما أنها في أمور غيبية، وأنها كالفتوى، والسلف الصالح كانوا يتدافعون الفتوى ما استطاعوا، ثم لم يثبت إن أحداً من الصحابة كالخلفاء الأربعة ولا من بعدهم أنه كان يفعل كما يفعله بعض الناس اليوم، لاسيما أبو بكر الصديق الذي شهد له النبي بأنه عارف بتعبير الرؤى؛ فلم يتصدروا لذلك ؛ فيجب أن يأخذ الأمر حجمه الطبيعي وفق الضوابط الشرعية من الرائين والمعبرين سواء.
والمشروع ..أن يأخذ العبد بالأسباب التي تدفع عنه المضار والأذى والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود) ، ثم بعد هذه الرؤيا يقص الله علينا قصة يوسف مع أخوته:{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ $ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } هكذا يصفون أباهم علية السلام بالضلال المبين لماذا ؟ لأنهم يرون أباهم يحب يوسف وأخيه الأصغر أكثر منهم، وكان حب يعقوب ليوسف عظيما، ليس لأنه أصغرهم؛ ولكن لما رأى فيه من صفات الخير زيادة عن أخوته، ولما سمع من رؤياه، والمرء غير محاسب بين يدي الله على محبته وميل قلبه، سواء لأحد أبنائه أو زوجاته إن كان له عدة زوجات، وإنما يحاسب المرء على أعماله وتصرفاته، وهل هو عادل أم ظالم ؟! أما القلب فشيء عفى الله عنه، كما قال النبي (اللهم هذا قسمي فيما أملك - أي بين نسائه- فلا تلمني فيما أملك).
فيجب العدل بين الأولاد، وينبغي له إن كان يحب أحدهم أكثر من غيره أن يخفي ذلك ما أمكنه، وألا يفضله ويؤثره عليهم بشيء؛ فإن فضله عليهم بشيء كان ظالما مرتكبا لمحرم، متسببا في زرع العداوة بينهم، ووقوع الحقد بينهم، والذي قد يؤدي إلى قتل الأخ.
ويتأكد العدل بين الأولاد في القسمة بينهم؛ فعن النعمان بن البشير رضي الله عنه:أن أباه نحَلَهُ (أي وهبه) غلاماً، ثم أراد أن يشهد النبي على ذلك؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" ألك ولد سوى هذا ؟ " فقال: نعم . قال: " أوهبتهم مثل ذلك؟ " .قال: لا .قال : " فلا تشهدني إذاً ؛ فإني لا أشهد على جور ".
والعدل بين الأولاد أقرب إلى صلاحهم وبرهم بالآباء؛ ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة ليوسف، سعوا في أمرٍ عظيم، ومكر وخيم، وهو أن يفرقوا بين يوسف وأبيه { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ $ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } فحسدوه لشدة حب أبيه له.
والبعض يظن بيعقوب النبي الكريم ظن السوء، وأنه كان ظالماً لإخوة يوسف، مفضلا له عليهم، وهذا لم يكن منه أبدا عليه السلام، وإنما كان يميل إليه محبة بقلبه أكثر من أخوته، وهذا لا يلام عليه العبد، وكلنا مبتلى بمثل هذا، ولو كان الله يعاقب على ميل القلب..الحب لزوجة أو ولد لاستحقينا العذاب والعقاب جميعا، ولكنها رحمة الله بخلقه أن عفى عنهم في هذه المحبة القلبية ولم يعاقب عليها .
أيها الإخوة في الله:
رأى إخوة يوسف ميل أبيهم ليوسف، وشدة حبه له وتعلقه به؛ فأضمروا له كيدا ودبروا له أمرا، كل ذلك سبب الحسد على يوسف.
والحسد داء خبيث من أعظم وأشر أدواء القلوب، وهو من أخلاق يهود، يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وأغلب ما يكون الحسد بين الإخوان والشركاء والزوجات والأقارب والجيران، ولكن كما قال بعض السلف : جزى الله الحسد خيرا؛ لقد أنصف فأكل قلب الحاسد قبل أن يؤذي المحسود.
فها نرى نحن نرى حسد إخوة يوسف له ومكرهم به؛ فماذا كان جزاء ذلك ؟ كان الجزاء أن أكرمه الله بأعظم من محبة أبيه له (جعله الله وزيرا ومسئولا عن خزائن مصر) بل أصبح عزيز مصر، مكان العزيز الذي اشتراه بثمن بخس..فيا سبحان الله!
حتى قال الفضيل بن عياض: وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق حتى مر يوسف؛ فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته والملوك عبيدا بمعصيته".
نعم هذه هي عاقبة الحسد للمحسود، وهذا شؤم الحسد على الحاسد؛ فهل يعي الآباء هذا الأمر بين أولادهم، وخاصة إذا كان الأبناء من أكثر من زوجة ؟! حسدوه وأضمروا له الشر وائتمروا فيما بينهم للخلاص من يوسف بقتله وإعدامه!
]إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ $ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ $ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ[، وكما يقال: بعض الشر أهون من بعض" فإخوة يوسف حين اتفقوا على التفريق بينه وبين أبيه، ورأى أكثرهم أن القتل شديد، عدلوا إلى إبعاده لأرض بعيده، ورموه في بئر ليبتعد عن وجه أبيه؛ بأن يلتقطه بعض المارة من المسافرين، هذا إن سلم من الهلاك، ظانين أنهم بفعلهم هذا سينالون حب أبيهم لهم.
ومنوا أنفسهم بالتوبة بعد ذلك فقالو (وتكونوا من بعده قوما صالحين) فيا عجبا!! ياعجبا لقوم هم كإخوة يوسف يعصون الله ويتعدون حدوده، ويقولون سوف نتوب بعدما نعصي الله فهم ينون التوبة من قبل العصيان، النية بالتوبة قبل الذنب، كأن يقول الزاني: أزني ثم أتوب،أو أشرب الخمر ثم أتوب..أسرق ثم أتوب واستغفر.. واغش وأخادع ثم أتوب..
هذه التوبة بهذه النية فاسدة لا تقبل كما ذكر أهل العلم، وكم لعب الشيطان بعقول كثير من المسلمين اليوم بهذه الشبهة؛ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا؛ فيقول لأحدهم لازلت شابا.. متع نفسك، وتلذذ بالحرام، وأنت كون نفسك الآن من الطيب والخبيث وبالحق والباطل، ثم إذا كبرت واستقرت لك الأمور حج بيت الله وتب إلى الله!!
وهذا جهل عظيم، وضلال كبير، والواجب التوبة من الذنب عند وقوعه من غير اختيار من العبد، وإنما عن جهل وضعف، ونحو ذلك.
عزم أخوة يوسف على إلقائه في الجب، ولكن أباه لا يفرط فيه ولا يرسله معهم إلى الرعي وغيره؛ فأتوا أباهم يراودونه في اصطحاب يوسف معهم؛ فبدءوا بتوطئة ومقدمة ماكرة فقالوا: يا أبانا.. هكذا يتلطفون معه فى الخطاب، ويلينون له العبارة، وينادونه بأجمل نداء { قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} وكأنهم يعاتبون أباهم في عدم ثقته بهم أن يكون يوسف معهم! يريدون منه أن يسلم لهم بأنه آمن على يوسف معهم.
هكذا بادروا الأب المشفق ]مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ[ بهذا الأسلوب العجيب { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} قلوبنا صافية لا يخالطها سوء !! وأبوهم لم يشك فيهم أصلا، وإنما كان محبا ليوسف، وهم أشعروه بأن ليس في الأمر شيء بهذا الطلب وهذا الكلام، فقالوا : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ نعم نحن محبون له نريده أن يلعب معنا ويمرح وينشط وهكذا دائما صاحب الباطل يحاول إنجاح باطله ودس خديعته، وما يريد بالتزين للعبارة وعرض المغريات والمرغبات والدعايات المعرضة والكلام المعسول ]يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ[ هكذا لينخدع بقولهم K وما أكثر ما يخدع اليوم كثير من الشباب والنساء بكيد الأعداء وباطلهم؛ فقال لهم يعقوب عليه السلام { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ[ فأنا لا أطق فراقه؛ فما أعظمه من حب { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } فهو عليه السلام صغير لا يستطيع الدفاع عن نفسه من الذئب كإخوته الآخرين؛ فقالوا { لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ} لا نصلح لشيء أبدا.
وتحت هذا الأغراء وتحت هذه الوعود، استسلم الأب المحب، استسلم لهذا العرض وهذا الإلحاح، وهذا الإحراج وهذا الترغيب، وهذا الطلب وهذا الاستعداد لحفظ يوسف؛ فأرسله معهم .
فهاهم الآن قد ذهبوا به وهاهم أولاء ينفذون المؤامرة النكراء!
ولكن الله سبحانه يلقي فى روع الغلام الصغير إنها محنة وستنتهي وأنه سيعيش وسيذكرهم بموقفهم هذا منه وهم لا يشعرون!{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }.
كل هذا يصنعه الحسد فى القلوب، نعوذ بالله من الحسد، ومن شر حاسد إذا حسد "بارك الله لي ولكم"
الحمد لله على إحسانه ..... أما بعد :
أيها الإخوة في الله ...
ويبقى يوسف الغلام الصغير فى جوف البئر، يؤنسه ولا شك ما ألقى الله في روعه.. أما إخوته { وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ $ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ $ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
لقد ألهاهم الحسد عن حبك الكذبة وسبكها، واستعجلوا المكر بأخيهم من أول مرة يرسله أبوه معهم، وكأنهم خائفون ألا تتيسر لهم الفرصة مرة أخرى، ومن تسرعهم أيضاً أنهم اعتذروا لأبيهم بالذئب الذي كان يحذرهم منه بالأمس؛ جاءوا أباهم عشاءً بعد أن أظلم الليل "يبكون" نعم حقيقة يبكون، والبكاء من الإخوة ليس دليلا صحيحا على صدق كلام ودعوى الباكي؛ فقد يبكي وهو كاذب ظالم مخادع ببكائه فى دعواه. جاءت امرأة إلى القاضي شريح رحمه الله تشكوا إليه من شيء؛ فجعلت تبكي. فقال من عنده : يا أبا أمية! ألا تقضي لها؛ أما تراها تبكي ؟ فقال :ويحكم أين أنت من أخوة يوسف؛ القوه فى الجب ثم جاءوا أباهم عشاء يبكون " .فقال أخوة يوسف والبكاء المزيف على وجوههم ويملأ أعينهم يا أبانا إنا ذهبنا نستبق نرمي ونجري، وتركنا يوسف عند متاعنا خوفا عليه من التعب؛ فأكله الذئب.
نعم يا أبانا أكله الذئب الذي كنت تخاف منه عليه، وما أنت بمؤمن لنا، لا ولو كنا صادقين، أي: ما أنت بمطمئن لما نقوله ولو كنا صادقين؛ لأنك تشك فينا، ولن تصدقنا فيما نقول.
وأسلوب كلامهم هذا هو أن يبرر لنفسه عدم قبول السامع للحديث، وعدم تصديقه لكلامه من أنك أي السامع سيئ الظن، ولن تصدق كلامه، ولكن سأقول ونحو ذلك من الألفاظ التي تفضح الكاذب مهما كان.
ومع هذا فقد جاءوا على قميصه الذي خلعوه من على جسده ومزقوه، جاءوا به وقد لطخوه بدم كذب؛ فأدرك يعقوب عليه السلام من دلائل الحال، وما أحسه في قلبه أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما؛ فقال : ]بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[.
وهكذا بحسدهم وفعلهم كذبوا على أبيهم، وخدعوه وانتزعوا منه يوسف، والقوه فى الجب وهو صغير لا ذنب له، وعقوا أباهم على كبر سنه ورقة عظمه وشدة حبه ليوسف، وادخلوا الحزن الدائم على أبيهم؛ حتى فقد بصره فهو كظيم، ولكن فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. وقالت هذا الجزء من الآية أمنا عائشة رضي الله عنها عندما قذفت واتهمت فى عرضها؛ فما استطاعت من كثرة بكائها أن تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوها إلا أن قالت "والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.اللهم احفظ لنا ديننا ...............................
| |
|